فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}.
تتنزل منزلة العلة للأمر بالذكر، ولذلك صُدرت بـ {إن} التي هي لمجرد الاهتمام بالخبر، لا لرد تردد أو إنكار، لأن المخاطب منزه عن أن يتردد في خبر الله تعالى، فحرف التوكيد في مثل هذا المقام يغني غناء فاء التفريع، ويفيد التعليل كما تقدم غير مرة، والمعنى: الحث على تكرر ذكر الله في مختلف الأحوال، لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى، وفيها تعريض بالمشركين المستكبرين عن عبادة الله بأنهم منحطون عن تلك الدرجات.
والمراد بـ {الذين عند ربك} الملائكة، ووجه جعل حال الملائكة علة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر: أن مرتبة الرسالةُ تلحق صاحبها من البشر برتبة الملائكة، فهذا التعليل بمنزلة أن يقال: اذكر ربك لأن الذكر هو شان قبيلك، كقول ابن دارة سالم بن مسافع:
فإن تتقوا شرًا فمثلُكم اتقى ** وإن تفعلوا خيرًا فمثلكُمُ فعل

فليس في هذا التعليل ما يقتضي أن يكون الملائكة أفضل من الرسل، كما يتوهمه المعتزلة لأن التشبه بالملائكة من حيث كان الملائكة أسبقَ في هذا المعنى؛ لكونه حاصلًا منهم بالجِبِلّة فهم مثل فيه، ولا شبهة في أن الفريق الذين لم يكونوا مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة، إذا تخلقوا بمثل خلق الملائكة، كان سُموهم إلى تلك المرتبة أعجب، واستحقاقهم الشكر والفضل له أجدر.
ووجه العدول عن لفظ الملائكة إلى الموصولية: ما تؤذن به الصلة من رفعة منزلتهم، فيتذرع بذلك إلى إيجاد المنافسة في التخلق بأحوالهم.
و{عند} مستعمل مجازًا في رفعة المقدار، والحظوة الآلهية.
وقوله: {لا يستكبرون عن عبادته} ليس المقصود به التنويه بشأن الملائكة لأن التنويه بهم يكون بأفضل من ذلك، وإنما أريد به التعريض بالمشركين وأنهم على النقيض من أحوال الملائكة المقربين، فخليق بهم أن يكونوا بعداء عن منازل الرفعة، والمقصود هو قوله: {ويسبحونه} أي ينزهونه بالقول والاعتقاد عن صفات النقص، وهذه الصلة هي المقصودة من التعليل للأمر بالذكر.
واختيار صيغة المضارع لدلالتها على التجديد والاستمرار، أو كما هو المقصود وتقديم المعمول من قوله: {وله يسجدون} للدلالة على الاختصاص أي ولا يسجدون لغيره، وهذا أيضًا تعريض بالمشركين الذين يسجدون لغيره، والمضارع يفيد الاستمرار أيضًا.
وهنا موضع سجود من سجود القرآن، وهو أولها في ترتيب الصحف، وهو من المتفق على السجود فيه بين علماء الأمة، ومقتضى السجدة هنا أن الآية جاءت للحض على التخلق بأخلاق الملائكة في الذكر، فلما أخبرت عن حالة من أحوالهم في تعظيم الله وهو السجود لله، أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبادر بالتشبه بهم تحقيقًا للمقصد الذي سبق هذا الخبر لأجله.
وأيضًا جرى قبل ذلك ذكر اقتراح المشركين أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية كما يقترحون فقال الله له: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} [الأعراف: 203] وبأن يأمرهم بالاستماع للقرآن وذكر أن الملائكة يسجدون لله، شرع الله عند هذه الآية سجودًا؛ ليظهر إيمان المؤمنين بالقرآن وجحود الكافرين به حين سجد المؤمنون، ويمسك المشركون الذين يحضرون مجالس نزول القرآن، وقد دل استقراء مواقع سجود القرآن أنها لا تعدو أن تكون إغاظة للمشركين أو اقتداء بالأنبياء أو المرسلين كما قال ابن عباس في سجدة، {فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} [ص: 24] أن الله تعالى قال: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] فداود ممن أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}.
وإذا كنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لما من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء، فلماذا خص هؤلاء بالعندية؟.
إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان؛ لأن المكان مُحَيَّز، وربنا عز وجل لا يتحيز في مكان، والعندية هنا عندية الفضل، وعندية الرحمة، وعندية الملك، وعندية العناية. أو إن كل خلق لله جعل لهم أسبابًا ومسبَّبات، ولكن خلقًا من خلقه يسبحونه بذاته، وليس لهم عمل آخر، ويعرفون بالملائكة العالين، لا الملائكة المدبرات أمرًا أو الحفظة. ولذلك قلنا سابقًا: إن الحق سبحانه وتعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم، وامتنع إبليس، قال له: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75].
و{العالين} هم الذين لم يشملهم أمر السجود، فهم ملائكة موجودون ولا عمل لهم إلا تسبيح الذات العلية ولا يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئًا. وهم غير الملائكة المسخرين لخدمتنا؛ فالذين عند ربنا هم الملائكة المُهيَّمون الذين لا يعرفون شيئًا إلا الذات الإلهية وتسبيح الذات وعملهم يحدده الله هنا: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}.
واختلف العلماء في كيفية سجود الملائكة، أهو الخضوع؟ أهو الصلاة؟ أهو السجود الذي نعرفه نحن؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع لله عز وجل وقت الصلاة. لأنه نزول بأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الأرض خضوعًا لله عز وجل. ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب الله فيها مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقية ونسجد لها سجدة تسمى التلاوة، ويكون ذلك عند تلاوتها أو سماعها من القارئ، وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة وجعلوا عندها علامة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطًا. وحين قام العلماء ببيان المواضع التي تطلب فيها هذه السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة الأعراف التي نتناولها بخواطرنا الآن، وانتهت بسجدة العلق: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1].
وبينهما سجدات، وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في هذه السورة. فمن حسبها خمس عشرة سجدة، عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة الحج الأولى- المتفق عليها- وبعض العلماء قال: إنها أربع عشرة سجدة؛ لأنه لم يحسب سجدة الحج الثانية.
وهب أنك أردت أن تسجد لله شكرًا في أي وقت، وعند أي آية فاسجد لله سجدة الشكر، وهي سجدة واحدة كسجدة التلاوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّه، أو زوال نقمة ولا تكون إلا خارج الصلاة.
والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير، ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلاة، والمفترض أن تقول: سبحان ربي الأعلى، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا ما نقوله في السجود للتلاوة، وروي عن ابن عباس قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال: إنِّي رأيتُ البارحَة- فيما يرى النائم كأنِّي أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدةَ فسجدت الشجرةُ لسجودي فسمعتها تقول: اللهم احطُطْ عني بها وِزْرًا، واكتُب لي بهاَ أَجْرًا، واجْعْلها لي عندكَ ذُخْراَ. قال ابنُ عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قولِ الشجرة».
وبذلك تختم سورة الأعراف، والتسمية للسورة في ذاتها متناسبة؛ لأن الأعراف هو المكان العالي البارز الذي يجلس عليه القوم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لينظروا إلى أهل الجنة وينظروا إلى أهل النار، وهكذا تكون الأعراف مكانًا يزيد في الارتفاع، وهي مأخوذة من عرف الفرس، وعرف الفرس أعلى شيء فيه، والأنفال أيضًا هي الزيادة؛ ولذلك فإن التسمية متناسبة سواء بالنسبة لسورة الأعراف أو الأنفال، وأيضًا يوجد التناسب في المعنويات، وهذا التناسب نلحظه عندما نقرأ قول الحق تبارك وتعالى في أواخر سورة الأعراف: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى في أول سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ...} [الأنفال: 1].
لأن من مهام الشيطان أن يفرق بين المؤمنين بوسوسته لهم، فإذا ما تذكروا الله وما أعده لأهل الإيمان؛ فهم يبصرون الحقيقة الأولى التي ترتفع على كل شيء وهي الإيمان بالله، وهذا الإيمان إنما يتطلب تصفية القلوب من كل ما يكدرها حتى تكون خالصة نقية. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأعراف: الآيات 189- 190]

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ}.
{مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} وهي نفس آدم عليه السلام {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها} وهي حواء، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه. أو من جنسها كقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا}.
{لِيَسْكُنَ إِلَيْها} ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وقال: {لِيَسْكُنَ} فذكر بعد ما أنث في قوله: {واحدة}. منها زوجها، ذهابا إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم. ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. والتغسى: كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى، ولم تستثقله كما يستثقلنه، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها: ما كان أخفه على كبدي حين حملته {فَمَرَّتْ بِهِ} فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق وقيل {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} يعنى النطفة {فَمَرَّتْ بِهِ} فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: {فاستمرت به}، وقرأ يحيى بن يعمر: {فمرت به}، بالتخفيف. وقرأ غيره: {فمارت به}، من المرية، كقوله: {أَفَتُمارُونَهُ} وأ فتمرونه. ومعناه: فوقع في نفسها ظن الحمل، فارتابت به {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} حان وقت ثقل حملها كقولك: أقربت. وقرئ: {أثقلت} على البناء المفعول: أي أثقلها الحمل {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما} دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا {لَئِنْ آتَيْتَنا} لئن وهبت لنا صالِحًا ولدًا سويًا قد صلح بدنه وبريء. وقيل. ولدًا ذكرًا، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في {آتَيْتَنا} و{لَنَكُونَنَّ}. لهما ولكل من يتناسل من ذرّيتهما.
{فَلَمَّا آتاهُما} ما طلباه من الولد الصالح السوىّ {جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ} أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي آتى أولادهما، وقد دلّ على ذلك بقوله: {فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} حيث جمع الضمير. وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم اللّه: تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة وعبد شمس وما أشبه ذلك، مكان عبد اللّه وعبد الرحمن وعبد الرحيم. ووجه آخر وهو أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم آل قصى ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد:
فَيَا لَقُصَىّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ ** بِهِ مِنْ فَخَارٍ لَا يُبَارَى وَسُودَدِ

ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصىّ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوىّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصىّ وعبد الدار، وجعل الضمير في {يُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه. وقرئ: {شركاء} أي ذوى شرك وهم الشركاء، أو أحدثا اللّه شركا في الولد.